كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأيضًا فإن ذلك يؤدي إلى ألاّ تنحلّ يمين ابتدىء عقدُها وذلك باطل.
وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه، فقال بعض أصحابنا: يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له.
وقال بعضهم: لا يصح حتى يسمع المحلوف له.
وقال بعضهم: يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له.
قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه، فلأن الأيمان تعتبر بالنيات، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه؛ فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلمًا، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره؛ وإنما قلنا لا يصح بحال فلأن ذلك حق للمحلوف له، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه، وجب ألاّ يكون له فيها حكم.
وقال ابن عباس: يدرك الاستثناءُ اليمين بعد سنة؛ وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] الآية؛ فلما كان بعد عام نزل {إِلاَّ مَن تَابَ}.
وقال مجاهد: من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه.
وقال سعيد بن جُبير: إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه.
وقال طاوس: له أن يستثني ما دام في مجلسه.
وقال قَتَادة: إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثُنْياه.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: يستثنى ما دام في ذلك الأمر.
وقال عطاء: له ذلك قدر حَلَب الناقة الغزِيرة.
السابعة عشرة قال ابن العربي: أمّا ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها؛ لأن الآيتين كانتا متصلتين في عِلم الله تعالى وفي لوحه، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله ذلك فيها، أَمَا أنه يتركب عليها فرع حسن؛ وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار، وأنت طالق إن دخلت الدار، واستثنى في يمينه الأوّل إن شاء الله في قلبه، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضًا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدّة أو سبب أو مشيئة أحد، ولم يظهر شيئًا من الاستثناء إرهابًا على المحلوف له، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه؛ وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة؛ فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء، وإنما يكون ذلك نافعًا له إذا جاء مستفتيًا.
قلت: وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الأولى وأخفى الثانية، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابًا وأخفى الاستثناء.
والله أعلم.
قال ابن العربي: وكان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدًا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه؛ فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضًا من الطلب وعزم على الرحيل، شدّ رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل، فقرأ فيها ما لو أنّ واحدًا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم، فحمد الله ورَحَّل على دابة قُمَاشه وخرج إلى باب الحَلْبَة طريق خُرَاسان، وتقدّمه الَكرِيّ بالدّابة وأقام هو على فَاميّ يبتاع منه سُفرته فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر: أما سمعت العالم يقول يعني الواعظ أن ابن عباس يجوّز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظلَلْت فيه متفكرًا، ولو كان ذلك صحيحًا لما قال الله تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] وما الذي يمنعه من أن يقول: قل إن شاء الله! فلما سمعه يقول ذلك قال: بلد يكون فيه الفامِيُّون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة؟ لا أفعله أبدًا؛ واقتفى أثر الكَرِي وحَلَّله من الكِراء وأقام بها حتى مات.
الثامنة عشرة الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رُخْصة من الله تعالى، ولا خلاف في هذا.
واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة: الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى قال أبو عمر: ما أجمعوا عليه فهو الحق، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك.
التاسعة عشرة قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحِنْث هل تجزىء أم لا بعد إجماعهم على أن الحِنْث قبل الكفّارة مباح حسن وهو عندهم أولى على ثلاثة أقوال: أحدها يجزىء مطلقًا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزىء بوجه، وهي رواية أشهب عن مالك؛ وجه الجواز ما رواه أبو موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأَرَى غيرها خيرًا منها إلاَّ كفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير» خرجه أبو داود؛ ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفَّارة؛ لقوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فأضاف الكفّارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها؛ وأيضًا فإن الكفّارة بدل عن البرّ فيجوز تقديمها قبل الحِنْث.
ووجه المنع ما رواه مسلم عن عديّ بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير» زاد النّسائي «وليكفر عن يمينه» ومن جهة المعنى أن الكفّارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يَحْنَث لم يكن هناك ما يُرفع فلا معنى لفعلها؛ وكان معنى قوله تعالى: {إِذَا حَلَفْتُمْ} أي إذا حلفتم وَحنثتم.
وأيضًا فإن كل عبادة فُعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارًا بالصلوات وسائر العبادات.
وقال الشافعي: تجزىء بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزىء بالصوم؛ لأن عمل البدن لا يقدّم قبل وقته.
ويجزىء في غير ذلك تقديم الكفّارة؛ وهو القول الثالث.
الموفية عشرين ذكر الله سبحانه في الكفّارة الخِلال الثلاث فخيَّر فيها.
وعَقَّب عند عدمها بالصيام، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم، ولا خلاف في أن كفّارة اليمين على التخيير؛ قال ابن العربي: والذي عندي أنها تكون بحسب الحال؛ فإن علمت محتاجًا فالطعام أفضل؛ لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجًا حادى عشر إليهم، وكذلك الكسوة تليه، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدّم المهم.
الحادية والعشرون قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} لابد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وفي الحديث «أَطْعَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجَدَّ السُّدس»؛ ولأنه أحد نوعي الكفّارة فلم يجز فيها إلا التمليك؛ أصله الكسوة.
وقال أبو حنيفة: لو غدّاهم وعشاهم جاز؛ وهو اختيار ابن الماجِشُون من عُلمائنا؛ قال ابن الماجشُون: إنّ التمكين من الطعام إطعام، قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] فبأي وجه أطعمه دخل في الآية.
الثانية والعشرون قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قد تقدّم في «البقرة» أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصفًا بين طَرفين.
ومنه الحديث «خير الأمور أوسطها» وخرج ابن ماجه؛ حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدّثنا سفيان بن عُيَينة، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس قال: كان الرجل يَقُوت أهله قُوتًا فيه سَعة وكان الرجل يَقُوت أهله قُوتًا فيه شدَّة؛ فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}.
وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين.
الثالثة والعشرون الإطعام عند مالك مُدٌّ لكل واحد من المساكين العشرة، إن كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبه قال الشافعي وأهل المدينة.
قال سليمان بن يَسَار: أدركتُ الناس وهم إذا أَعطوا في كفّارة اليمين أعطوا مُدًّا من حِنطة بالمدّ الأصغر، ورأوا ذلك مجزئًا عنهم، وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رَبَاح.
واختلف إذا كان بغيرها؛ فقال ابن القاسم: يجزئه المدّ بكل مكان.
وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمدّ ونصف، وأشهب بمدّ وثلث؛ قال: وإنّ مدًّا وثلثا لوسطٌ من عيش الأمصار في الغداء والعشاء.
وقال أبو حنيفة: يُخرج من البرّ نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعًا؛ على حديث عبد الله ابن ثعلبة بن صُعَيْر عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمرٍ، أو صاع من شعيرٍ عن كل رأس، أو صاع بُربيْن اثنين.
وبه أخذ سفيان وابن المبارك، وروى عن علي وعمر وابن عمر وعائشة، رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيّب، وهو قول عامة فقهاء العراق؛ لما رواه ابن عباس قال: «كَفَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك»، فمن لم يجد فنصف صاع من بُرّ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}؛ خرجه ابن ماجه في سننه.
الرابعة والعشرون لا يجوز أن يُطعم غنيًا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك: لا يعجبني أن يُطعمه، ولكن إن فعل وكان فقيرًا أجزأه؛ فإن أطعم غنيًا جاهلًا بغناه ففي «المدوّنة» وغير كتابٍ لا يجزىء، وفي «الأسدية» أنه يجزىء.
الخامسة والعشرون ويخرج الرجل مما يأكل؛ قال ابن العربي: وقد زَلَّت هنا جماعة من العلماء فقالوا: إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البرُّ فليخرج مما يأكل الناس؛ وهذا سَهْوٌ بيّن؛ فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلَّف أن يعطي لغيره سواه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صاعًا من طعامٍ صاعًا من شعير» ففصل ذكرهما ليخرج كلُّ أحدٍ فرضه مما يأكل؛ وهذا مما لا خفاء فيه.
السادسة والعشرون قال مالك: إن غَدَّى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه.
وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة؛ لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مدًا.
وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يجزىء إطعام العشرة وجبة واحدة؛ يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء، حتى يغدّيهم ويعشيهم؛ قال أبو عمر: وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار.
السابعة والعشرون قال ابن حبيب: ولا يُجزىء الخبز قَفَارا بل يُعطي معه إدامه زيتا أو كَشْكًا أو كَامَخًا أو ما تيسر؛ قال ابن العربي: هذه زيادة ما أراها واجبة أما أنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر نعم واللحم، وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه؛ لأن اللفظ لا يتضمنه.
قلت: نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخلّ؛ وما كان في معناه من الجُبْن والكَشْك كما قال ابن حبيب.
والله أعلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعِم الإدام الخل» وقال الحسن البصري: إن أطعمهم خبزًا ولحمًا، أو خبزًا وزيتًا مرّة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه؛ وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول، وروى ذلك عن أنس بن مالك.
الثامنة والعشرون لا يجوز عندنا دفع الكفّارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي.
وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة؛ فمنهم من أجاز ذلك، وأنه إذا تعدّد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يُمنع من الذي دُفِعت إليه أوّلًا؛ فإن اسم المسكين يتناوله.